نصيحة إمامُ السُّنَّة لإصلاح واقع الأمَّة

نصيحة إمامُ السُّنَّة لإصلاح واقع الأمَّة


~~~~~

بسم الله الرحمن الرحیم

حبّذا لو كانت نصيحة متعلّقة بالمؤتـمر الذي اجتمعنا نحن مع الإخوة بسببه، وعنوانه:

(واقع الأمة الإسلاميّة، أسباب الوهن، وسبيل النّهوض)(1), (1) أصل هذه الـمقالة محاضرةٌ ألقاها إمامنا - رحمه الله تعالى - عبر الهاتف تلبية منه لدعوة موجَّهةٍ من جمعية القرآن والسنة بشمال أمريكا بإشراف تلميذه الألـمعيِّ فضيلة الشيخ: علي الحلبي – حفظه الله، قام بتفريغه: أياد بن محمد الغطيس .
وجزاكم الله خيراً .

الـجواب: نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا وإيّاكم لمعرفة الحق ولاتّباعه وجواباً على ما سألت أقول:

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [سورة آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَـالاً كَثـِيـرًا وَنِـسَاء وَاتَّقُـواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءَلُـونَ بِــهِ وَالأَرْحَـامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْـكُمْ رَقِيبًا) [سورة النساء: 1] .(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [سورة الأحزاب:70 ـ 71] .

أما بعد: فَإِنَّ خَيْرَ الكلام كلام اللهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه وسلم )، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ وبعد:

* واقع الأمة الإسلامية:

إنه مما لا يخفى عليكم جميعاً أن ما عليه المسلمون اليوم من واقع الأمر السيء في هذا العصر الذي نعيشه هو بلا شك أسوأ ما أصاب المسلمين في كل عصورهم المتأخرة مما لا يحتاج أحدٌ إلى أن يوصف له لأنه يحياه ويعايشه فكلنا يعلم انتشار أنواع الفسق والفجور في العالم الإسلامي وقليلٌ ممن لا يزالون يعتصمون بكلمة الحق وباتباع الكتاب والسنة، أما الأكثرون فكما قال رب العالمين: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187]. وكما قال في الآية الأخرى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) [يوسف: (106)] .

* افتراق الأمة:

واقع الأمة اليوم مما تحدث عنه رسول الله (صلی الله علیه وسلم )قبل أن نرى ما رأينا، بل وقبل أن يرى ما رآه أجدادنا من قبل من الفرقة والتحزب والتفرق في الدين خلافاً لقول رب العالمين: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31 ـ 32]. وكما قال رب العالمين في الآية الأخرى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153].
وقد بين رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) هذه السبل في الحديث الصحيح الذي صور تفرق المسلمين وخروج الكثيرين منهم عن الخط المستقيم فيما رواه عبد الله بن مسعود(رضى الله عنها)قال: "خط لنا رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) يوماً خطاً على الأرض مستقيماً ثم خط حوله خطوطاً قصيرةً، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) ثم قال(صلی الله علیه وسلم ) وقد مر بإصبعه الشريفة على الخط المستقيم: "هذا صراط الله" وأشار إلى الخطوط القصيرة التي على جانبي الطريق بقوله عليه الصلاة والسلام: " هذه طرق وعلى كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه" صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: ( ظلال الجنة في تخريج السنة برقم: 16 و 17) ..
فقد بين النبي(صلی الله علیه وسلم ) في هذا الحديث أن الطريق الموصل إلى الله عز وجل إنما هو طريقٌ واحدٌ وليس كما يقول أو يزعم بعض المتصوفة: " إن الطرق الموصلة إلى الله عز وجل هي بعدد أنفاس الخلائق" . هذا كانوا يقولونه قديماً، أما اليوم فقد تعددت الطرق بتعدد الجماعات والأحزاب وكل حزبٍ بما لديهم فرحون مع أن هؤلاء المسلمين اليوم جميعاً يعلمون قول الله عز وجل: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

* مفهوم الطائفة الـمنصورة الناجية:

ويعلمون أيضاً قول النبي: " تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى إلى ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" قالوا: "ما هي يا رسول الله ؟ قال: "هي الجماعة" صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (203 و 204 و 1492).. هذه هي الرواية المشهورة والصحيحة والرواية الأخرى- وهي مفسرة للأولى- قال: " هي التي تكون على ما أنا عليه وأصحابي". فقوله(صلی الله علیه وسلم ) في هذه الرواية الثانية - وهي رواية حسنة كما بينت ذلك في بعض كتبي(2)-: " ما أنا عليه وأصحابي " يحدد منهج الفرقة الواحدة والطائفة المنصورة الناجية وهي: التي تأخذ بما كان عليه رسول الله وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين .

(2)( سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 407)، (3/ 334)، وصحيح الترمذي برقم: (2641) وصحيح الجامع برقم: (5343) ومشكاة المصابيح برقم: (169 – التحقيق الثاني)، وتحقيق شرح العقيدة الطحاوية برقم: (263) وسلسلة الأحاديث الضعيفة: (3/126) .)


وهنا نكتة لا بد لي من ذكرها بمناسبة قوله(صلی الله علیه وسلم ): "وأصحابي" لأنه من الواضح أن النبي(صلی الله علیه وسلم ) لو اقتصر على قوله: " ما أنا عليه " لكان جوابه وافياً كافياً ولكنه لحكمة بالغة زاد على ذلك وعطف فقال: " وأصحابي " والحكمة هي: أن أصحاب النبي كانوا جميعاً على هدى من ربهم لأنهم تلقوا الوحي النازل على قلب نبيهم (صلی الله علیه وسلم ) غضاً طرياً كما أنزله الله عز وجل قبل أن يتسلط على مفاهيمه وعلى دلالاته العجمة أو الهوى - الذي ران على قلوب بعض الذين جاءوا من بعد السلف الصالح - من أصحاب الآراء والأفكار المباينة والمخالفة لما كان عليه أصحاب النبي (صلی الله علیه وسلم ) لهذا ذكرهم وعطفهم على ما كان عليه لأنه يعلم علم اليقين أن أصحابه سيكونون له متبعين تمام الاتباع .

* خير القرون:

وكذلك أثنى رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) على القرون الذين يأتون من بعد أصحابه(صلی الله علیه وسلم )ومجموع تلك القرون هي كما قال(صلی الله علیه وسلم )(صلی الله علیه وسلم )
في الحديث الصحيح، بل الحديث المتواتر في نقدي وفي علمي وتتبعي ألا وهو قوله: "خير الناس قرني" وبعض الناس يروونه بلفظ: "خير القرون قرني"(( انظر: (تحقيق التنكيل للإمام ـ رحمه الله ـ (2/ 208).)) فأرى من الواجب عليٌ أن أذكّر ـ والذكرى تنفع المؤمنين ـ أن لفظ الحديث الصحيح "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" صحيح البخاري .

فهؤلاء القرون الثلاثة هم الذين شهد لهم النبي(صلی الله علیه وسلم ) بالخيرية وهم المقصودون بالآية الكريمة وهي قول الله عز وجل: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].

فقوله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة:
(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) منه اقتبس نبينا (صلی الله علیه وسلم ) قوله سابقا: "وأصحابي". فالنكتة في هذا الحديث كالنكتة في هذه الآية الكريمة.

* ضرورة التزام سبيل الـمؤنين:

وفي ذلك دلالة واضحة على أن المسلمين جميعاً في هذه العصور المتأخرة لا يجوز لهم أن يخالفوا سبيل المؤمنين الأولين لأنهم كانوا على هدىً من ربهم ولذلك أيضا خصَّ رسول الله (صلی الله علیه وسلم )بالذكر أصحابه المفضلين على أصحابه الآخرين ألا وهم الخلفاء الراشدون المهديون كما جاء في حديث العرباض بن سارية(رضى الله عنها) قال: قال رسول الله(صلی الله علیه وسلم ): "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن ولي عليكم عبد حبشي وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"(( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (2735))). هكذا ذكر رسول الله مع سنته في هذا الحديث سنة الخلفاء الراشدين لتلك النكتة التي أشرنا إليها في الآية وفي حديث الفرقة الناجية . وفي كل هذه النصوص الثلاثة منهاج يوجب على المسلمين في العصر الحاضر أن يلتزموه وأن لا يكونوا بعيدين عنه كما هو شأن كثير ممن يشاركنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة ولكنهم يخالفوننا في منهجنا عند رجوعنا في فهم الكتاب والسنة إلى فهم هؤلاء السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم . ذلك مما يجب على كل مسلم أن يتخذه منهجاً له لكي لا ينحرف عما كان عليه سبيل المؤمنين فلا يكفي اليوم أن نقول نحن على الكتاب والسنة ثم نختلف في فهم الكتاب والسنة ؛ فالرجوع إلى السلف الصالح هو ضمان وصيانة من أن يقع المسلمون اليوم في مثل ما وقع فيه المسلمون الذين جاؤوا بعد السلف فاختلفوا اختلافاً كثيرا .

* أسباب الخلاف الـحادث بعد السلف:

ذلك لأنهم لم تتوفر لديهم نصوص السنة التي تتولى بيان القرآن الكريم كما قال رب العالمين:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44]. هذا هو السبب الأول الذي كان من أسباب الخلاف الذي وقع بين المتقدمين حتى بين بعض الأئمة المجتهدين من العلماء والزهاد والصالحين، ولكن هناك أسباباً أخرى وهي تسلُّط الأهواء و الآراء الخاصة ببعض الناس ولو كانوا على شيء من العلم بل والزهد والصلاح، ولذلك فنحن نقول: إنه لا ضمان لكي لا يقع المسلمون في مخالفة الكتاب والسنة إلا بالرجوع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح، فأنا أعتقد أن واقع الأمة الإسلامية اليوم من اختلافهم في تفسيرهم لبعض نصوص الكتاب والسنة هو بسبب اعتمادهم على غير هذا المنهج الذي نسميه بالمنهج السلفي، هذا ما ينبغي أن نعرفه في واقع الأمة الإسلامية اليوم لكي يتمكنوا من العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح والذي اقترن بهم أن الله عز وجل أعزهم ومكن لهم في الأرض كما هو معلومٌ في التاريخ الإسلامي الأمجد .

هذا ما يحضرني الآن جواباً عن هذه القطعة من السؤال وهو واقع الأمة الإسلامية .

* أسباب الوهن:

أما أسباب الوهن فهي عند العلماء كثيرة وكثيرة جدا وقد يعلمون كلهم أو على الأقل بعضهم أن النبي(صلی الله علیه وسلم ) جمعها في جملة واحدة في الحديث الثابت الصحيح عنه(صلی الله علیه وسلم ) وهو قوله: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" قالوا: "أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟" قال: "لا، بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنَّكم غثاءٌ كغثاء السيل ولينزعن الله الرهبة من صدور عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن". قالوا: "وما الوهن يا رسول الله؟" قال: " حب الدنيا وكراهية الموت"(( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: سلسلة الأحاديث الصحيحة) برقم: (958) )).

* حب الدنيا رأس كل خطيئة:

وصدق رسول الله(صلی الله علیه وسلم )، فليس يخفى على كل مسلم عاقل أن (حب الدنيا رأس كل خطيئة)(3) وأنه سبب كل معصية وبلية، كيف لا، وهو الذي يحمل الناس على الشح بالمال والنفس؟! ولذلك قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" كما ورد في كثير من كتب السنة ومنها: صحيح الإمام مسلم.

(3)( وليُعلم أن هذا اللفظ هو نصُّ حديث ضعيف ضعَّفه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (ضعيف الجامع برقم: 2682) ولكن معناه صحيح بلا ريب )

* صور استحلال الـمحارم:

وإن مما يجب ذكره وبيانه بهذه المناسبة أن استحلال المحارم المهلك يكون على وجهين اثنين:

الأول: ارتكاب المحارم مع العلم بحرمتها وهذا أمر مشاهد فاشٍ مع الأسف الشديد بين المسلمين اليوم بكل أشكاله وأنواعه حتى الكبائر ألا وهي: الإشراك بالله عز وجل الذي يتجلى واضحاً في بعض الجماعات أو الأفراد الذين ينادون غير الله عز وجل في الشدائد ويستغيثون بغير الله وينذرون ويذبحون لغير الله فضلاً عن أنّ أكثرهم يحلفون بغير الله
. كل هذه من أنواع الشرك الفاشية اليوم بين المسلمين وأكثرهم - لا أقول وأكثر عامّتهم بل أقول وأكثر خاصتهم - لا يدندنون حول التحذير من هذه الأنواع من الشركيّات والوثنيّات التي تعتبر أكبر الكبائر كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة ومنها قتل النفس بغير حق وعقوق الوالدين وأكل الربا وما أدراكم ما أكل الربا؟! وقد انتشر أيضاً في هذا الزّمان بسبب قيام ما يسمّونه بالبنوك وكذلك من الكبائر: شرب الخمر وتبرج النساء وبناء المساجد على القبور وغيرها كثير وكثير. والقسم الآخر من استحلال المحارم المهلك: ارتكابها دون معرفة حكمها أو حرمتها وذلك للجهل بها وهذا بلا شك شر منتشر أيضاً بين كثير من المسلمين . ويدخل ضمن القسم الأول: استحلال المحارم بطريق الاحتيال عليها على نحو احتيال اليهود على صيد السمك المذكور في القرآن كما هو معلوم مشهور وكاحتيالهم على أكلهم الشحوم كما في قوله(صلی الله علیه وسلم ) في الحديث الصحيح: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه"(4)(4)( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (صحيح الجامع برقم: 5107) . وأصله في الصحيحين، البخاري في عدة مواضع منها برقم : (2236 و 4296) ومسلم في عدة مواضع منها برقم: (1581 و 1582) ).

هذا الحديث من الأحاديث التي قلما نسمعها من ألسنة الخطباء والوعاظ وهو من الأحاديث المهمة والمهمة جداً التي تحذر المسلمين من الوقوع في ما وقع فيه اليهود من قبلهم وقد حذرهم رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) من أن يقعوا في مثل ما وقعوا هم فيه في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنها، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه وسلم ): "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله: "آليهود والنصارى؟ " قال: "فمن؟ " أو قال: "فمن الناس؟ " البخاري برقم: (3456 و 7320), ومسلم برقم: (2669) .

* التحذير من استحلال الـمحارم:

وأقول محذراً: وهذا النوع من الارتكاب والاستحلال لما حرم الله عز وجل بأدنى الحيل قد وقع أيضا فيه كثير من المسلمين في بعض معاملاتهم وعقودهم من أشهر ذلك نكاح التحليل الملعون فاعله في السنة الصحيحة لقوله (صلی الله علیه وسلم ): " لعن الله المُحلِل والمُحَلَل له "( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (إرواء الغليل) برقم: (1897) .) ومع ذلك فلا يزال في المسلمين اليوم بعض المتفقهة يُجيزون نكاح التحليل رغم لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعله، وكذلك مما فشا في العصر الحاضر بيع التقسيط بزيادة في الثمن على ثمن بيع النقد(5)(5)( توسَّع الإمام - رحمه الله تعالى - وأفاض في بيان حرمة بيع التقسيط ببحث فريد أودعه في كتابه المستطاب: (سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: 2326) )، وكذلك بيع العينة المنتشر في بعض البلاد الإسلامية ولا يتسع المجال الآن لشرح ذلك كله، وإنما أردت أن أذكر الإخوان بحديث يناسب المقام ألا وهو قوله(صلی الله علیه وسلم ): " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"(6)(6)( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: 11) )، ففي هذا الحديث بيان واضح جداً لبعض الأدواء والأمراض الناتجة من حب الدنيا، ومن ذلك الداء الأول الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ألا وهو التبايع بالعينة، فإن هذا الداء مستشرٍ في بعض البلاد وأكثر الناس- كما قال رب العالمين-
لا يعلمون.

* بيع العينة ومفهومها:

إن بيع العينة هو نوع من البيوع أو المعاملات الربوية التي لا يجوز التعامل بها ومع الأسف إن بعض الناس يتعاملون بـها على أنها من المعاملات الجائزة شرعاً .

والعينة مشتقة من عين الشيء أي ذاته ونفسه وبيع العينة معروفٌ عند العلماء ويتمثل في أن يأتي الرجل إلى تاجر يبيع سيارات مثلاً فيسومه على سيارة فيشتريها منه مثلا بعشرين ألفاً - بسعر التقسيط وليس نقدا - ثم يعود هذا المشتري بائعا فيقول للتاجر: هل تشتري مني هذه السيارة ؟ فيعرف التاجر بأن الرجل يريد منه المال فيتفقان على سعر دون السعر الذي اشتراه منه فليكن مثلا بأقل بألفين أو ثلاثة فهذا الذي اشترى ثم باع قد سُجِّلَ عليه العشرون ألفاً وإنما أخذ أقل من ذلك بألفين أو أكثر هذه المعاملة هي بيع العينة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الصورة الحقيقية المرادة من هذا البيع - عند من
يبتعد عن اتباع الهوى أو على الأقل اتباع ما اعتاده من بيع العينة - إنما هي: أن يأخذ بأقل مما سُجِّلَ عليه. لا فرق بين هذه الصورة التي سُتر الربا فيها بالبيع وبينما لو جاء إلى هذا التاجر وقال له: " أعطني ثمانية عشر ألفاً وأعطيك عشرين ألفاً ". كل المسلمين والحمد لله إلى اليوم يعتقدون جازمين أن هذه المعاملة .

* تحايل اليهود:

فالشحوم من الطيبات المحرمة عليهم
وقد جاء في الحديث السابق: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها وإن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه". ففي هذا الحديث نجد أن اليهود تلاعبوا بالحكم الشرعي ألا وهو تحريم الشحوم فكان اليهودي إذا ذبح الشاة أو الكبش السمين أكل اللحم الأحمر فقط ورمى الشحم على الأرض ائتماراً منه بأمر الله عز وجل، ثم لم يصبر اليهود على هذا الحكم الشرعي فاحتالوا على استحلاله فذوبوا هذا الشحم، ذلك معنى قوله(صلی الله علیه وسلم ): "فجملوها" أي: ذوَّبوها، ألقوا الشحوم في القدور وأوقدوا النار من تحتها فأخذت الشحوم شكلاً آخر وهو استواء الشحم على السطح كاستواء الماء، أوهمهم الشيطان وسوّل لهم وزيّن لهم أن الشحم الآن خرج عن كونه شحماً وهم يعلمون أنه لا يزال في طبيعة تركيبه وطعمه ولذته شحمًا إذ هم غيروا الشكل من أجل الأكل ـ كما يقال في بعض البلاد ـ فهم بهذا التغيير استحلوا ما حرم الله .

* الاعتبار من أحوال الـهالكين:

لـم يقص علينا رسول الله (صلی الله علیه وسلم )قصة استحلال اليهود لهذه الشحوم بهذه الحيلة وما قص ربنا عز وجل قصة اليهود في احتيالهم الصيد للسمك يوم السبت بحصرها في الخلجان كما هو مذكور في التفاسير من أجل التأريخ فقط وإنما كما قال عز وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111] . فالعبرة هنا في القصتين -قصة اليهود مع السمك وقصتهم مع الشحم -: ألا نقع فيما وقعوا فيه من الاحتيال على ما حرم الله .
فبيع العينة حرمها النبي لكي لا يقع المسلمون في الاحتيال على الربا الذي صورته أن يستقرض أقل مما يسجل عليه، وبيع العينة صورته أيضاً كذلك و لكن من وراء بيع شكلي صوري كما أن اليهود غيروا الشحوم حينما أذابوها شكلاً . وأنا حينما أقول هذا أعلم أن بيع العينة يحرمه كثير من العلماء وكما أن بعضهم - ممن لم يبلغه هذا الحديث أو لم يصح عنده لأنه ليس من تخصصه - يقول بجواز هذا البيع تمسكاً بلفظ البيع، ولكن أهل العلم يعلمون أن مجرد ورود لفظ البيع في معاملة ما لا يجعل تلك المعاملة بيعاً إلا إذا كان الشرع لم يحرمها. وإذا رجعنا إلى هذا الحديث وجدنا أن النبي(صلی الله علیه وسلم )
ذكر التبايع بالعينة أول مرض من الأمراض التي ساقها من بعده ألا وهي التكالب على الدنيا والانغماس في الأخذ بأسباب جمع المال الذي يترتب منه ما هو واقع المسلمين اليوم مما ذكره عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث عطفاً على داء التبايع بالعينة والأخذ بأذناب البقر والرضى بالزرع فقال عليه الصلاة والسلام: "وتركتم الجهاد في سبيل الله عز وجل " .

* ضرورة الـجهاد:

فترك الجهاد الذي أصبح عاماً اليوم يشمل مع الأسف الشديد كل الدول العربية والإسلامية رغم كونها تملك من وسائل الجهاد والقتال ما لا تملكه الشعوب المسلمة المتحمسة للدفاع عن بلادها وعن أراضيها بل وعن أعراضها ولذا كان أمراً طبيعياً -سنة الله عز وجل ولن تجد لسنة الله تبديلاً - أن يسلط الله عليهم ذلاً لوقوعهم في مثل هذه المخالفات والاستحلال لما حرم الله عز وجل . هذا الذل الذي نراه قد ران على بلاد المسلمين كافة ولو أنهم كانوا في الظاهر أحراراً، ولكنهم مع الأسف الشديد لا يستطيعون أن يتحركوا بما يأمرهم به كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كمثل ما جاء في الحديث الصحيح: "جاهدوا المشركين بأموالكم
وأنفسكم وألسنتكم " صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: ( صحيح أبي داود برقم: 2504) . نحن الآن قد ألغينا الجهاد بالنفس وركنا إلى الجهاد بالأموال لوفرتها لدينا وباللسان لسهولة ذلك علينا أما الجهاد بالأنفس فذلك مما أصبح مع الأسف في خبر كان ؛ ولذلك فالنبي(صلی الله علیه وسلم ) قد وصف في هذا الحديث الصحيح الداء مع الدواء حيث ذكر نماذج من الأمراض التي ستصيب المسلمين في أول هذا الحديث - حديث العينة- ثم بين في آخره(صلی الله علیه وسلم ) الدواء، فقال: " لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم" وهذا الدواء هو العلاج الوحيد للمسلمين إذا أرادوا أن يعود إليهم عزهم ومجدهم وأن يمكن الله لهم في الأرض كما مكن للذين من قبلهم فقال(صلی الله علیه وسلم ): " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والمجد والتمكين في الأرض ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب" صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: ( صحيح الترغيب والترهيب برقم: 23 و 1332 ) .

* سبيل النهوض:

إذاً قوله(صلی الله علیه وسلم ) في هذا الحديث: "حتى ترجعوا إلى دينكم" يُفسح لي المجال للدخول في الإجابة عما جاء في آخر السؤال وهو: ما هو سبيل النهوض بهذه الأمة التي أصابها من الذل والهوان ما لم يُصب الأمة من قبل هذا الزمان؟

فنقول: إن النبي(صلی الله علیه وسلم ) حينما وصف الدواء في هذا الحديث بالرجوع إلى الدين إنما انطلق من مثل قوله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) [الرعد: 11].

وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]. فما هو السبب الذي من أجله غيَّر الله فينا نعمة القوّة والعزّة والتمكين في الأرض والتي كان عليها المسلمون من قبل؟ ذلك لأننا غيّرنا نعمة الله عز وجل وبدّلنا فأخذنا بأسباب الدنيا وتركنا الجهاد في سبيل الله عز وجل وكنتيجة شرعيّة وكونيّة أن المسلم إذا لم ينصر الله عز وجل لم ينصره الله كما هو صريح قوله تبارك وتعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد: 7].

* مظاهر البعد عن الإسلام:

هنا لا بد لي من وقفة، إذا كان الله عز وجل قد جعل على لسان نبيه العلاج لهذا المرض العضال الذي أصاب المسلمين في أرضهم الإسلامية كلها مع الأسف الشديد إنما هو الرجوع إلى دينهم، والدين كما تعلمون إنما هو الإسلام وقد قال رب الأنام:

(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85]. وقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) [الـمائدة: 3]. ويعجبني بمناسبة هذه الآية ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم الاعتصام(7)(7)( انظر: ( الاعتصام - تحقيق: فضيلة الشيخ
مشهور آل سلمان - نفع الله به – (1 / 62) ) عن الإمام مالك أنه قال: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً(صلی الله علیه وسلم ) خان الرسالة" - وحاشاه- ثم قال: "اقرؤوا قول الله تبارك وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)

ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً.

كنا نستدل بهذا الأثر الثابت عن الإمام مالك -إمام دار الهجرة -على
أنه لا يجوز للمسلم أن يحدث في الإسلام بدعة مهما كانت يسيرة سواء في الأخلاق أو العبادات فضلاً عن العقائد اعتماداً على هذه الآية الكريمة التي بين الله عز وجل فيها أنه أتم النعمة علينا بإتمام ديننا ألا وهو الإسلام، فما بالنا اليوم وقد أصبحنا بعيدين عن الإسلام ليس فقط فيما يتعلق بالسنن التي تخالفها البدع أو في هذه الجزئيات التي يسميها بعضهم بأنها من الأمور الثانوية، بل أصبحنا بعيدين عن الإسلام الذي ارتضاه الله لنا ديناً حتى في قضائنا وفي أفكارنا بل وفي عقائدنا ؟! فإذا كنا جادين مخلصين وأردنا فعلاً أن نتعاطى هذا العلاج الذي وصفه ربنا عز وجل على لسان نبيه(صلی الله علیه وسلم ) وهو أن نرجع إلى الدين فبأيّ مفهوم نفهم هذا الدين؟

وجوب العودة إلى مذهب السلف:

هناك مفهومان معروفان لدى كثير من العلماء الذين يعرفون الخلاف بين علماء السلف وعلماء الخلف وهما مذهبان مذهب ينتمي إلى السلف ومذهب ينتمي إلى الخلف فأولئك الذين ينتمون إلى مذهب الخلف يقولون عن مذهب السلف بأنه أسلم لكن مذهب الخلف أعلم وأحكم،فيا ترى هل نعود في عقائدنا أولاً إلى ما كان عليه سلفنا الصالح أم نعود إلى مذهب هؤلاء الخلف الذين يصرحون بأن مذهب السلف أسلم ولكن مذهب الخلف أحكم وأعلم؟ لا شك أنه يتبين من النصوص التي ذكرناها أن واجبنا نحن في هذا الزمن وقد أُحيط بنا من كل جانب أن نعود إلى ما كان عليه سلفنا الصالح سواء في ما يتعلق بالعقائد أو في ما دون ذلك من الأحكام والأخلاق والسلوك . فلا بد في كل ذلك أن نرجع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح الذي كان لا يرضى له بديلاً عن الاعتماد على الكتاب والسنة حينما يقع تنازع ما بين بعض أفراد الأمة كما قال ربنا عز وجل في القرآن الكريم: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].

اليوم مع الأسف الشديد لا نجد هذه الجماعات وهذه الأحزاب تتفق معنا على تعاطي هذا الدواء الذي لا علاج للمسلمين في العودة إلى عزهم ومجدهم الغابر إلا بالرجوع إلى دينهم.

هذه النقطة -أن الدواء هو الرجوع إلى دين الإسلام - نقطة لا خلاف فيها بين كل مسلم مهما كان اتجاهه ومهما كان تحزبه وتكتله ولكن الخلاف مع الأسف الشديد هو في فهم هذا الدين فهناك كما ذكرنا مذهبان مذهب السلف ومذهب الخلف فالسلف ما كانوا يختلفون في الأصول لأنهم لم يختلفوا في أن المرجع عند التنازع إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) فهم كانوا يتحاكمون إلى هذين المصدرين ويسلمون لهما تسليماً -كما ذكرنا ذلك في الآية السابقة - ولكن الاختلاف قد كان بينهم للسبب الأول الذي سبقت الإشارة إليه وهو أن بعضهم كان لا يصله الحديث عن النبي(صلی الله علیه وسلم ) فيجتهد فيقع في خطأ غير قاصد إليه ولذلك قال(صلی الله علیه وسلم ) في الحديث الصحيح: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد" البخاري برقم: (7352 ) ومسلم برقم: (1716).

فلذلك ينبغي على هؤلاء المسلمين الرجوع
إلى هذه القاعدة التي لا يجوز أن يقع فيها اختلاف ألا وهي فهم الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح فإذا اتفقنا على هذه القاعدة
وجعلناها لنا منهجاً وسبيلاً نتعاون على فهمها أولاً وعلى تطبيقها ثانياً فهنا يأتي الأمر الهام والهام جدا وهو خلاصة الجواب عن هذا السؤال ألا وهو: سبيل النهوض.

* وجوب تطبيق الإسلام على الحكام والـمحكومين:

لا بد للمسلمين اليوم من أن يفهموا دينهم فهماً صحيحاً ثم يطبقوه كلٌّ بحسبه تطبيقاً صحيحاً حكاماً ومحكومين فالمحكوم غير الحاكم، الحاكم له سلطة عليا والمحكوم سلطته محدودة فإذا قام كل من الحاكم والمحكوم بفهم الإسلام فهماً صحيحاً ثم بتطبيق هذا الإسلام تطبيقاً كاملاً كلٌّ بحسب ما يستطيعه كما أشرت إليه آنفاً يومئذ -في اعتقادي - يفرح المؤمنون بنصر الله، ولكنني أرى أن كثيراً من الدعاة الإسلاميين الذين يلهجون دائماً وأبداً بدعوة الحكام إلى الحكم بما أنزل الله عز وجل وهذه دعوة حق لا شك ولا ريب فيها لقول الله عز وجل: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44].

وفي الآية الأخرى: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45] .

وفي الثالثة: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47].

فتطبيق الحكام الإسلام في دساتيرهم وفي قوانينهم وعلى شعوبهم كل هذا حق واجب ولكن نحن نذكر أفراد الشعوب المسلمة الذين ينادون بكلمة الحق هذه - وهي الحكم بما أنزل الله -أن عليهم أن لا ينسوا أنفسهم كما قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [الـمائدة: 105].

فلذلك على أفراد المسلمين أن يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً ثم يطبقوه تطبيقاً كاملاً في حدود استطاعتهم على أنفسهم، وعلى من لهم ولاية عليهم من رعاياهم كما قال(صلی الله علیه وسلم ): "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالرجل راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها" البخاري في عدة مواضع منها برقم: (893 و 2409), ومسلم برقم: (1829).

إنًّ هذا المعنى من التربية للنفس يشير إليه بعض الدعاة الإسلاميين بالكلمة التي تروى عنه ألا وهي قوله: " أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم لكم في أرضكم" في هذه الكلمة التي تعجبنا كثيراً ولكن لا يُعجبني الذين ينتمون إلى قائلها حيث إنهم لا يعنون بها ولا يهتمون بتطبيقها لأن ذلك يكلفهم أمراً يتطلب جهداً جهيداً ألا وهو الرجوع إلى فهم الإسلام على الوجه الصحيح الذي سبق بيانه آنفاً اعتماداً على كتاب الله وعلى حديث رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح.

* التصفية والتربية وحاجة الـمسلمين إليها:

فأقول: العودة إلى هذا الدين -الذي هو الدواء لما أصاب المسلمين اليوم -يتطلب أمرين اثنين طالما أكني عنهما بالتصفية والتربية، وأعني بالتصفية: أن يقوم علماء المسلمين الذين يتبنون هذا المنهج الصحيح من فهم الإسلام على ما كان عليه سلفنا الصالح بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه مما هو برئ منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب - كما يُقال في بعض الأمثال -وأن يدعوا الناس إليه سواء ما كان متعلقاً بالعقيدة أو الأحكام - التي اختلف فيها كثيراً - أو الأخلاق أو السلوك فلا بد من تصفية الإسلام في كل ما يتعلق بهذا الإسلام الذي أتمه الله عز وجل علينا كما سبق بيانه في الآية وأؤكد ذلك بالحديث الصحيح وهو قوله(صلی الله علیه وسلم ): "ما تركت شيئاً يُقربكم إلى الله ويبعدكم عن النار إلا وأمرتكم به وما تركت شيئاً يُبعدكم عن الله ويُقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه"(8)(8)( صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (1803)).

هنا يرد بيان لا بد لي منه ـ لـمن كان يُريد أن يتمشَّى مع هذا المنهج الصحيح ـ وهو: أنَّ كثيراً من العلماء قديما وحديثا يعلمون فكراً أن السنة دخل فيها مالم يكن منها حتى في القرن الأول حيث بدأت بعض الفرق الضالة ترفع أصواتها وتدعو إلى مخالفة الكتاب والسنة باتباعها لأهوائها كما جاء عن أحد الخوارج حينما هداه الله عز وجل إلى السنة فقال: "انظروا من أين تأخذون دينكم فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً"، ولذلك جاء عن ابن سيرين - رحمه الله -وهو التابعي الجليل الذي كان يُكثر من الرواية عن حافظ الصحابة للسنة والحديث ألا وهو أبو هريرة رضي الله تعالى عنه
قال: " انظروا من أين تأخذون دينكم" وقد رُوي هذا حديثا مرفوعاً إلى النبي (صلی الله علیه وسلم )ولكن لا يصح رفعه والصحيح أنه مقطوع موقوف على ابن سيرين - رحمه الله - ولذلك قال بعض أئمة الحديث: " الإسناد من الدين لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء في الدين"، إذا كان الأمر كذلك باتفاق العلماء نظرياً -وأعني ما أقول حينما أقول نظرياً-ذلك لأني أريد أن أقول حقيقة مرة ألا وهي: أن هذا الإسناد لم يهتم به جماهير العلماء الاهتمام الواجب وإنما اهتم به طائفة من علماء المسلمين وهم أئمة الحديث كالإمام أحمد بن حنبل والإمام يحيى بن معين وعلي بن المديني وتلامذتهم كالإمام البخاري ومسلم وغيرهم من أئمة الحديث والنقاد الذين تكلموا في الرواة جرحاً وتعديلاً هؤلاء هم الذين يجب الرجوع إليهم والاعتماد عليهم لإجراء التصفية في هذه السنة التي يجب الرجوع إليها بعد تصفيتها. كتب السنة الآن متوفرة وذلك من تمام عناية الله عز وجل بهذه الأمة ووفاء منه بالحكم الذي ذكره في القرآن الكريم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9].

* الرجوع إلى السنة كالرجوع إلى القرآن:

وبهذه المناسبة لا بد لي من التذكير بأن هذه الآية الكريمة حينما تُذكر يتوهم بعض الناس -ممن لا علم عندهم بالسنة أو لا يقيمون وزناً للسنة -أن الحفظ الذي ضمنه الله عز وجل في هذه الآية إنما هو خاص بالقرآن الكريم فأقول: نعم ربنا عز وجل ذكر الذكر في الآية فهو قد حفظ القرآن الكريم بحروفه ولكنه حفظ معانيه بسنة نبيه(صلی الله علیه وسلم ) ولذلك فلا يمكن تحقيق هذه التصفية للسنة إلا من طريق علماء الحديث وبالتالي لا يمكن فهم القرآن إلا بطريق هذه السنة المصفاة وإلا وقع المسلمون فيما وقعت فيه الفرق الخارجة عن الفرقة الناجية وذلك لأن القرآن - كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه - حمّالٌ ذو وجوه أي: يتحمل عدة معانٍ ولذلك قال ربنا عز وجل: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44]. (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يا محمد (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) بسنتك (مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ) من القرآن الكريم، ففي هذه الآية ما يشير إلى أن فيها ما هو مبيَّن وما هو مبيِّن فالمُبَيَّن هو القرآن المنزل المُكنّى عنه بالذكر والمُبَيِّن هو رسول الله(صلی الله علیه وسلم )
المخاطب بهذه الآية ولذلك فلا سبيل إلى فهم القرآن إلا بالسنة الصحيحة ولذلك حذر النبي (صلی الله علیه وسلم ) من أمرين اثنين ليتحقق هذا البيان تحققاً صحيحاً .

الأمر الأول: حذر أمته(صلی الله علیه وسلم ) من أن يقولوا عليه ما لم يقل حتى تبقى السنة كما تلفظ بها(صلی الله علیه وسلم )أو كما فعلها أو كما أقرها ففي الحديث المتواتر عنه: " من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "(8)(8)( البخاري في عدة مواضع منها برقم: (110 و 1291) ومسلم في مقدمة صحيحه في باب: تغليظ الكذب
على رسول الله(صلی الله علیه وسلم )).


وفي لفظ آخر: "من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: (صحيح سنن ابن ماجه برقم: (34 و 35).

والأمر الآخر الذي نبَّه رسول الله(صلی الله علیه وسلم ) أمته عليه هو: وجوب الرجوع إلى السنة كما يرجعون إلى القرآن ولذلك قال(صلی الله علیه وسلم ): "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول: هذا كتاب الله فما وجدنا فيه حلالاً حللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" صححه الإمام - رحمه الله تعالى - في: ( صحيح سنن الترمذي برقم: 2663 و 2664 ).

بالجمع بين هذين الأمرين اللذين نبَّه النبي (صلی الله علیه وسلم )عليهما يمكننا أن نفهم الدين الذي جعله (صلی الله علیه وسلم )دواءنا من أدوائنا التي حلت بنا وأحاطت بنا من كل
جانب هذا هو الأمر الأول، والأمر الآخر الذي أكني عنه هو: التربية، فبعد أن يقوم العلماء بهذا الواجب من التصفية وقد بينت ما أعني بهذه الكلمة أقول: لا بد لهم من أن يقرنوا مع هذه التصفية تربية ذويهم ورعيتهم على هذا الإسلام المصفى ذلك لكي لا نكون من الذين يقولون ما لا يفعلون وقد قال ربنا عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2 ـ 3] .

ولذلك جاء الوعيد الشديد في حق من لا يعمل بعلمه كما قلنا في الحديث السابق الذي قال فيه عليه السلام: " بشر هذه الأمة بالرفعة والسناء والمجد والتمكين في الأرض" ثم قال(صلی الله علیه وسلم ): " فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب".

فهذا الحديث يوجب علينا أننا إذا عملنا بديننا المصفى أن يكون عملنا خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، كما قال ربنا عز وجل: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة: 5] .

هذا ما أردت أن أقوله بمناسبة هذه الأسئلة الطيبة التي وردت من هذه الجمعية المباركة إن شاء الله
- جمعية القرآن والسنة - .

نسأل الله عز وجل أن يلهمنا وإياكم فهم الإسلام فهماً صحيحاً على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة وعلى منهج السلف الصالح وأن يوفقنا حكاماً ومحكومين للعمل بهذا الإسلام المصفى .

أسأل الله بأنه الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن يتقبل دعاءنا هذا وأن ينصرنا على أعدائنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين .






لـمُحدِّث العصر ومُجدِّد القَرن الإمام الرَّبانـي: (محمد ناصر الدين الألبانـي رحمهُ الله)


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~